قصة موسى عليه السلام
في الآية المتضمنة قتل الكافر قال تعالى ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد
فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه
إلى قوله فقضى عليه
فمن أقوال المخلطة في هذه القصة أن موسى عليه السلام قتل القبطي من أجل
العبراني لأن كان العبراني من قبيله والقبطي من غير قبيله فصيروا الكليم عليه السلام
متعصبا لأجل قبيله وعشيرته وليس الأمر كذلك وحاشاه من ذلك
فإن هذه هي حمية الجاهلية وإنما مر موسى عليه السلام برجلين يقتتلان أحدهما يعرفه
مؤمنا والآخر يعرفه كافرا فاستغاثه المؤمن على الكافر فوكز الكافر ليحمي المؤمن فصادف
مقتلا من مقاتله بتلك الوكزة فمات
فصل
فإن قيل من أين لكم أن تحكموا بإيمان أحدهما وكفر الآخر وإنما نطق الكتاب ب رجلين
أحدهما من شيعته أي من بني إسرائيل والآخر من عدوه لكونه من القبط
فنقول ومن أين علمتم أيضا أن أحدهما كان قبطيا والآخر كان سبطيا والكتاب إنما نطق
برجلين
فإن قالوا لقوله تعالى هذا من شيعته وهذا من عدوه والشيعة القبيل والرهط فمن أين
نقلتم الحقيقة إلى المجاز ومن أين صح لكم العلم بكفر أحدهما وإيمان الثاني
فنقول علمنا ذلك من ثلاثة أوجه
أحدها أن شيعة الكافر قبيله ونسيبه وصنفه وشيعة المؤمن إنما هو شريكه في الإيمان
كان من قبيله أو من غير قبيله قال تعالى إنما المؤمنون أخوة
وقال في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
وقال في الكفرة فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
وقال تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه
والمرء هذا الكافر بدليل قوله تعالى ألأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
والأخلاء هنا المؤمنون
وقال تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين
وقال تعالى في الكافر ويوم يعض الظالم على يديه
إلى قوله يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
إلى غير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من تبرئ المؤمن من الكافر ومجموع هذا يدل
على أن الذي استغاث بموسى عليه السلام كان مؤمنا على بقايا من دين يوسف عليه
السلام
قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه
فكان في بني إسرائيل وفي القبط مؤمنون يكتمون إيمانهم فكان هذا الرجل المستغيث
بموسى عليه السلام منهم
الثاني قول الله تعالى لأم موسى عليه السلام يأخذه عدو لي وعدو له
ومعلوم قطعا أن الله تعالى ما سمى فرعون عدوا له ولنبيه إلا لأجل كفره فخرج من هذا أن
هذا القبيل إنما كان عدوا لموسى عليه السلام من اجل كفره ولو اجتزأنا بهذا الدليل
لاكتفينا به عما سواه
الثالث أن الله تعالى قال هذا من شيعته وهذا من عدوه فلو كان المقصود بالشيعة القبيل
لقوبل في النقيض بقبيل آخر لا بالعدو فإنه ليس من وصف من لم يكن من القبيل أن يكون
عدوا ثم قد يكون
العدو من القبيل بل من الأخ والولد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم
وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم فصحت عداوة الدين مع ثبوت النسب
فيخرج العدو هنا مخرج قوله تعالى يأخذه عدو لي وعدو له حرفا بحرف وكذلك قوله تعالى
فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فخرج من مضمون هذا أن موسى عليه
السلام وكز الكافر العدو لأجل كفره لا لغير ذلك إذ ليس لله تعالى شيعة ولا قرابة سبحانه
وتعالى وقد أثبت لنفسه عدوا
فإن قيل فإذا كان هذا هذا فلم ندم على قتله وتحسر واستغفر ربه وغفر له ومع هذا يمتنع
يوم القيامة من الشفاعة لأجل هذا المقتول ويقول معتذرا ومعترفا قتلت نفسا لم يأمرني
الله بقتلها وأيضا فإن الله تعالى عاتبه في الدنيا عند المناجاة فقال له وقتلت نفسا فنجيناك
من الغم
فكيف يعاتب كليمه على قتل كافر
وأيضا فقد قال هو لفرعون حين عرض له بقتل القبطي فقال وفعلت فعلتك التي فعلت
وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين
فنقول أما قولكم لم ندم وتحسر واعتذر واستغفر وغفر له فهذا من النمط الذي قدمناه في
حق غيره من الأنبياء عليهم السلام أنهم يتحسرون ويندمون ويستغفرون على ترك الأولى
من المباحات فلا فائدة في إعادة تفصيل ما فرغنا من جملته وتفصيله
على أن ندم موسى عليه السلام لم يكن على مباح وإنما كان ندمه على فعل لم يؤمر به
والأفعال قبل الشرع انما هي مطلقة لا غير فإن المباح يقتضي مبيحا فإذا لم يثبت شرع
فلا مباح ولا مبيح
وهذا أوسع في عذر موسى عليه السلام إذ لم يكن مشروعا له عندما قتله وإن كان قد
التزم شريعة يوسف عليه السلام على وجه من الوجوه فتخرج له على الوجه المتقدم
وأما قولكم إن الله تعالى عاتبه عند المناجاة على قتل القبطي فباطل وإنما عدد ربه تعالى
عليه في ذلك المقام الكريم نعمه السالفة عليه وآلاءه العميمة في قوله تعالى إذ أوحينا
إلى أمك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت إلى قوله تعالى واصطنعتك لنفسي ثم ذكر له
من جملتها كيف نجاه من كيد فرعون وغم كان في قلبه من أجل طلبه إياه حين فر بنفسه
منه
ولو عاتبه ربه على ذلك لخرج له مخرج ما قدمناه من عتاب الله تعالى لأنبيائه على بعض
المباحات من غير أن يلحق بهم ذنب ولا عتب
وأما قوله عليه السلام لفرعون فعلتها إذا وأنا من الضالين فيعني به أنه كان عندما قتله من
الغافلين الغير مكلفين فكأنه يقول له فعلتها قبل إلزام التكليف وإذ كنت غير مكلف فلا
تثريب علي فإنه لا يقع الذنب والطاعة إلا بعد ثبوت الأمر والنهي والدليل على أن ضلال
الأنبياء غفلة لا جهل قوله تعالى لنبينا عليه السلام ووجدك ضالا
فهدى يعني غافلا عن الشريعة لا تدري كيفية العبادة فهداك لها بالأمر والنهي ثم قال له
بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين
والجاهل لا يسمى غافلا حقيقة لقيام الجهل به فصح أن ضلال الأنبياء عليهم السلام
غفلة لا جهل
وقال بعض مشايخ الصوفية وجدك ضالا أي محبا له فهدى أي اختصك لنفسه خصوص
الهداية والصحبة
يعضد ذلك ما أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام إن أبانا لفي ضلال مبين أي في
حب مبين ليوسف وكذلك قولهم له بعد ذلك تالله إنك لفي ضلالك القديم أي في حبك
القديم له ومن أسماء المحبة عند العرب الضلال
ومع ما ذكرناه في هذه القصة من تبرئة موسى عليه السلام من الذنب في قتل الكافر أن
قتله كان خطأ فإنه ما طعنه بحديدة ولا رماه بسهم
ولا ضربه بفهر ولا بغيره وإنما وكزه وما جرت العادة بالموت من الوكزة وإن مات منها أحد
فنادر والنادر لا يحكم به فقد تبرأ موسى عليه السلام من الذنب في قتل الكافر براءة
الذئب من دم ابن يعقوب عليهما السلام
من كتاب
تنزيه الأنبياء
عما نسب إليهم حثالة الأغبياء
أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي